![]() |
| قراءة في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب للرافعي |
تاريخ آداب العرب في ثلاث أجزاء كان هدية لي
في عيد مولدي الماضي من أحد الأصدقاء المجيدين في اختيار الهدايا الأثيرة، وها قد
اقترب عيد مولدي القادم، ولم أكن قد قرأته بعد لكثرة سفري وترحالي ما بين القاهرة
وأسيوط، وعدم تمكني من التقاط أنفاسي لأنتهي من عملي أو من رسالة الماجستير
المقيتة تلك التي تلاحقني في كل مكان وتطبق على أنفاسي، ولكنني حزمت أمري وقررت أن
أبدأ في قراءته، وعلى الرغم من شهرة وذيوع اسم مصطفى صادق الرافعي إلا إنني لم
أقرأ له أي عمل من قبل؛ فليكن هذا إذن أول قراءاتي له.
مصطفى صادق الرافعي يحيي عقدي اللغوية:
بداية أول ما أثار دهشتي وإعجابي وأنا أقرأ
مقدمة وتصدير كتاب تاريخ آداب العرب قولهم إن مصطفى صادق الرافعي حين وضع هذا
الكتاب (أو هذه المجموعة من الكتب إن صح الكلام) كان عمره حينها ثلاثون عاماً فقط!
ففي هذا العمر القصير كان قد حوى من العلم واللغة والبيان ما يؤهله أن يضع ما يشبه
الموسوعة، وليس مجرد كتاب بسيط، وبينما أنا قد جاوزت عمره حين وضع هذا الكتاب،
أرجو ألا ينتبه أحد لهذا الأمر، إلا إنني لم أكن -وما زلت- لا أفقه الكثير مما في
هذا الكتاب.
كنت أظن في البداية أن مصطفى صادق الرافعي في
كتابه تاريخ آداب العرب اهتمامه منصباً على التأريخ للآداب وفنونها وأنواعها، وكنت
أعتقد أنني سأجد فيه على الأكثر قصص وحكايات من التاريخ العربي، ولكن الجزء الأكبر
في الكتاب كان منصباً على الدقائق اللغوية، فبعد مقدمة طويلة في أنواع اللغات
العالمية عامة وتصنيفاتها بدأ التركيز على اللغة العربية بدقائقها النحوية
والصرفية وأنواع اللحن فيها، واختلاف النطق بين اللهجات وبطون العرب، ومن أكثر ما
لفت انتباهي أن كلمة "نحم" التي نقولها عادة نحن الفتيات خاصة على سبيل
الدلع بدلاً من "نعم" لها أصل لغوي حيث تنطقها قبيلة هذيل بهذه الطريقة
وتقلب العين حاءً.
كما أشار مصطفى صادق الرافعي في كتابة تاريخ
آداب العرب إلى أخذ اللغة العربية لبعض المصطلحات من اللغات الأخرى كالفارسية
والسنسكريتية والرومية والسريانية والنبطية وغيرها، وهذا كله معروف، فمن المعروف
أن ألفاظ الزنجبيل والاستبرق وما إلى ذلك الواردة في القرآن الكريم لم تكن ألفاظاً
عربية، وإنما دخلت على العربية من لغات أخرى، ولكن ما شد انتباهي في هذا الأمر أن
كلمة "نبي" أيضاً ليست عربية، وإنما أُخذت من الهيروغليفية لغة مصر
القديمة، وهنا انتابني بعض شعور بالفخر.
المغالاة في العربية من تاريخ آداب العرب:
ربما من أكثر القضايا المثارة جدلاً في الأدب
العربي الحديث هو تمسك البعض بالشعر العمودي ومهاجمة كل من يحاول الخروج عنه
والتجديد في الشعر بشكل عام بدءاً من الشعر الحر وشعر التفعيلة وحتى قصيدة النثر،
ولا يخلو الأمر من اتهام الطرف الآخر بالتغريب والعداء للإسلام والعروبة في شكل
هزلي غريب، إلا أن واقع الأمر الذي يكشفه لنا مصطفى صادق الرافعي في الجزء الأول
من كتابه تاريخ آداب العرب أن الأمر له جذور تمتد للقرون الأولى.
ولم يكن الأمر مرتبطاً فقط بنوع الشعر بل إن
أحد النحويين -كما يذكر مصطفى صادق الرافعي في كتابه- أدعى أن العرب كانوا يعرفون
علوم النحو والعروض بتوقيف متوارث حتى يصل للمصدر الأول وهو الله عز وجل انطلاقاً
من كونه "علم آدم الأسماء كلها"، وأن هذه العلوم نسيت بمرور الزمن حتى
قيض الله لهما أبا الأسود الدؤلي ليحيي النحو، والخليل بن أحمد الفراهيدي ليحي
العروض، وهم بذلك يجعلون الأمر دينياً بحتاً، ومخالفته تعد مخالفة للشريعة وتأله
على الله تستدعي محاربة من يقوم به وإماتة باطله!
![]() |
| أجزاء كتاب مصطفى صادق الرافعي تاريخ آداب العرب الثلاث |
ولم تكن المغالاة في هذا فقط بل إنهم غالوا
أيضاً في كراهة الكتابة ووضع الكتب؛ فيذكر مصطفى صادق الرافعي في فصول كتابه تاريخ
آداب العرب أن عبد الله بن عباس نهى عن الكتابة نهي قطعي، وحين أتى له أحدهم بكتاب
يريد عرضه عليه أخذه منه ومحى ما به بالماء (وكانوا وقتئذ يكتبون على رقاع
الجلود)، وكانت حجته في ذلك أن الاعتماد على الكتابة والكتب ستجعلهم يعرضون عن
الحفظ، وتضعف ذاكرتهم؛ فإذا عرض للكتاب عارض ولم يعد موجوداً محى العلم من
الأذهان، وهي وإن كانت حجة في ظاهرها منطقية إلا إنها تفوت أيضاً الكثير من العلم.
محاربة كل جديد ديدن تاريخ آداب العرب:
فنتيجة لذلك لم يكن في هذا الزمن مجال لمن لا
يتمتعون بقوة الذاكرة أن يتدارسوا شيئاً من العلم، حتى إنهم كانوا يعيرون من
يكتبون الكتب أو يأخذون عنها وكأنها مسبة، فذكر مصطفى صادق الرافعي عن موفق الدين
النحوي في كتابه تاريخ آداب العرب، والذي كان يعد آية عصره في النحو، ولم يكن درس
العلم شفاهة على يد شيخ أو عالم وإنما أخذه من الكتب، وعلم نفسه بنفسه؛ فظلوا
يعايرونه بالأمر كلما غلبهم في حل مشكلة ما بدلاً عن الاعتراف بفضله وعلمه.
مما
اضطره أن يسافر ويرتحل بين البلدان ليقرأ على الشيوخ والعلماء يأخذ إجازاتهم؛ ليتم
الاعتراف به عالماً بينهم، ولم يكن به حاجة لذلك وإنما جرياً على عاداتهم، حتى
أصبحت الإجازات من وجاهة القوم؛ فتهافت عليها الناس، وأصبح الأمراء يطلبونها لغرض
التباهي لا مدارسة العلم، ويتفاخر بعضهم على بعض بها، ويبتاعونها بالدراهم
والدنانير، وتفننوا في كتابتها وتجويد خطها، مما يذكرني الآن أيضاً بالتهافت على
شهادات الماجستير والدكتوراه المضروبة ودفع النقود في سبيلها، أو استئجار بديل
لتقديم بحوث الماجستير والدكتوراه فقط لأجل نيل المباهاة باللقب.
فما
أشبه اليوم بالبارحة، ولكن عوداً على بدء في نبذ الكتب فإن رواية العلم شفاهة
وتناقلها من لسان لآخر تعرضها للخطأ والنسيان، فجل من لا يسهو، حتى إنه ورد في
كتاب مصطفى صادق الرافعي نفسه قولاً للصحابي "عمران بن حصين":
"والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله يومين متتابعين، ولكن
بطأني عن ذلك أن رجالاً من أصحاب رسول الله سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت،
ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبّه لي كما شبّه لهم، فأعلمك أنهم
كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون".
هذا
في الحديث والنقل عن رسول الله وهو أكثر أنواع الحديث تحرياً للصدق وأمانة النقل
لما فيه من الوعيد لمن كذب عامداً على رسول الله؛ فما بالك بعلوم هي أدنى في
المنزلة، وكيف لذاكرة أن تعي كل هذا دون كتابة أو تدوين، ويذكرني هذا بمحاربة كل
أنواع الحضارة والتمدين حين تبدأ في الظهور؛ ففي زمنهم حاربوا الكتب، وفي زمن لاحق
بعد أن استتب الأمر للكتب عن طريق الوارقين والنساخ حاربوا المطبعة حين ظهرت، ومن
بعدها حاربوا الصحف.
وانتقلت
الحرب فيما بعد للميكروفونات، ومن ثم الراديو والسينما والمسرح والتلفزيون، وكلما
ظهر مخترع جديد لتسهيل الحياة والإبداع حاربوه، وآخر الأمر الآن ها هم يحاربون
الذكاء الاصطناعي وكل من يستخدمه بنفس الحجج والدعاوي، وذلك لكونه سيقيد مهارات
الذهن والتفكير وملكات الإتقان والفن والإبداع، ولا يدركون أن المبدع الحقيقي
سيستخدم الأداة في تطوير إبداعه واختصار الوقت في الأعمال الروتينية والتصحيحية
المرافقة للعمل الإبداعي، في حين أن المعتمد تماماً على الأداة لم يكن مبدعاً
بالأساس ولا شيء حقيقي لديه ليقدمه، وسيظهر فراغه جلياً بعد عرضه لعمله المقلد
صناعياً إذ لن تكون هناك أي روح حقيقية به.
هذا ما أثاره كتاب مصطفى صادق الرافعي في تاريخ آداب العرب لجزءه الأول، ولكن الكتاب مليء بالكثير الذي قد ينير فجوات في أذهان الكثيرين، ولكن الحديث سيطول، وكنت أظن أنني لن أتمكن من كتابة الكثير حول الكتاب؛ فإذا بي أتجاوز الألف كلمة؛ لذا سأتوقف عند هذا الحد، وأدعو كل قارئ ومهتم بالأدب العربي وتاريخه أن يطالع الكتاب، وربما في الأيام القادمة سأوافيكم بما قد يُستجد في جزئيه التاليين.


تعليقات
إرسال تعليق
تعليقاتكم تثري موضوعاتنا وتساعدنا على الاستمرار فنحن نهدف إلى اثارة النقاش الجاد المفيد لكافة الأطراف حول الموضوعات المطروحة، ويسرنا أن نعلم ما إذا كانت المقالات تنال استحسانكم أم لا وما جوانب النفع أو القصور فيها، وماذا تأملون في المقالات القادمة؟