جلبدن نامه ... أميرة هندية تروي تاريخ الهند

قراءة في كتاب جلبدن نامه ... أميرة هندية تروي تاريخ الهند
قراءة في كتاب جلبدن نامه ... أميرة هندية تروي تاريخ الهند




     جلبدن نامه باللغات الفارسية والأردية والهندية والكردية تعني مذكرات جلبدن، وقد اشتهرت تلك المذكرات من قبل باسم "همايون نامه" حيث كان هدف الأميرة جلبدن بيجم من كتابة تلك المذكرات هو تسليط الضوء على فترة حكم أخيها الأكبر همايون وإبراز إنجازاته وحياته السياسية، ولكن بعد اكتشاف المخطوطة الأصلية ودراستها من خلال المستشرقين الإنجليز الذين عاشوا في الشرق خلال تلك الفترة قرروا نسبتها إلى كاتبتها الأميرة جلبدن بيجم كونها تعبر عن دور المرأة في عهد الإمبراطورية المغولية في الهند وتصف الحياة الثقافية والسياسية من وجهة نظر أميرة هندية تروي تاريخ الهند.

خلفية تاريخية لحياة الأميرة جلبدن بيجم وظروف كتابة مذكرات جلبدن نامه:

    مذكرات "جلبدن نامه" كتبتها الأميرة جلبدن بيجم باللغة الفارسية في القرن السادس عشر الميلادي في بداية تأسيس الإمبراطورية المغولية في بلاد الهند، فالأميرة جلبدن بيجم هي ابنة السلطان بابر مؤسس دولة المغول في الهند والذي يعد أحد أحفاد القائد المغولي الشهير تيمور لنك والذي بدوره حفيد جنكيز خان مؤسس عرق المغول في العالم بأسره، وعلى الرغم من أن بداية احتكاك العرب والمسلمين بإمبراطورية المغول كانت وبالاً ودماراً على العرب والإسلام، فجنكيز خان قام بتدمير الدولة الخوارزمية الإسلامية في شرق آسيا وحفيده هولاكو أكمل الزحف حتى بلاد العرب وأنهى الخلاف العباسية في بغداد بقتله آخر الخلفاء العباسيين المستعصم بالله أبو أحمد وأولاده بعد تدميره لبغداد كافة وإعمال السيف في أهلها.
   أقول على الرغم من هذه البداية السيئة لعلاقة المغول بالإسلام إلا إن احتكاكهم بالمسلمين والثقافة الإسلامية أدى إلى اعتناق العديد منهم الديانة الإسلامية، وكان أول أمير مغولي يعتنق الإسلام هو الأمير بركة خان الذي وطد علاقته بالسلطان المملوكي في مصر وقتها الظاهر بيبرس وزوجه ابنته، وانتشر الإسلام في المغول ليحولهم من مدمري الدول الإسلامية إلى مؤسسين جدد للدول الإسلامية؛ فأسس أرطغل ومن بعده ابنه عثمان للدولة العثمانية في أراضي الأناضول، وأسس بابر دولة المغول في الهند.
   وكانت جلبدن بيجم أحد أبناء الملك ظهير الدين محمد المشهور ببابر وأخت الملك همايون وعمة السلطان المغولي الشهير محمد جلال الدين أكبر الذي أنتجت السينما الهندية عن حياته الفيلم الشهير "جودها أكبر"، وابنه الأمير سليم المعروفة قصة حبه للخادمة أناركلي، وابنه الذي تولى الحكم من بعده كان السلطان شاه جيهان الذي بنى تاج محل تخليداً لذكرى زوجته ممتاز، وابن شاه جيهان هو السلطان أورانجزيب الذي يعد آخر سلاطين إمبراطورية المغول الأقوياء الذين حكموا الهند قاطبة.
    حيث خلف السلطان أورانجزيب على العرش سلاطين ضعفاء تناوبت عليهم المطامع البريطانية والبرتغالية في السيطرة على الهند حتى سقطت تماماً تحت الحكم البريطاني في عهد آخر سلطان مغولي محمد بهادور شاه الذي وضع تحت الإقامة الجبرية في قصره وصدر الأمر بكونه آخر إمبراطور مغولي ولن يرث الحكم أحداً من أولاده ولقبت الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا وقتها بإمبراطورة الهند، لم تكن الأميرة جلبدن بيجم شاهدة على هذه الأحداث بالطبع التي أنهت حكم عائلتها في بلاد الهند الذي أسسه والدها قبل ولادتها بسنوات قليلة.
   كانت الأميرة جلبدن بيجم -وبيجم هو لقب احترام وتشريف لمكانتها- شاهدة على بداية تأسيس الإمبراطورية المغولية في الهند، وبناءاً عليه طلب منها ابن أخيها السلطان جلال الدين محمد أكبر كتابة كل ما شهدته عن هذه الفترة في حكم جده بابر وأبيه همايون ليكون مصدر تأريخ لهذه الفترة، وكانت جلبدن بيجم من النساء القلائل اللاتي يجدن القراءة والكتابة بعدة لغات أيضاً، فقد كانت تجيد اللغات الفارسية والتركية والهندية، وقد كتبت مذكراتها تلك "جلبدن نامه" باللغة الفارسية.
   وقد كانت اللغة الفارسية هي لغة الدولة والدواوين في بداية تأسيس دولة المغول في الهند، فمن المعروف تاريخياً أن أحفاد تيمور لنك كانوا يتحدثون اللغة الفارسية، ويعد كتاب "جلبدن نامه ... أميرة هندية تروي تاريخ الهند" أول كتاب في الأدب الفارسي تكتبه امرأة، وعلى الرغم من أن السلطان جلال الدين محمد أكبر كان أمياً لا يجيد القراءة والكتابة حيث تولى أمور الحكم في سن صغيرة وشغلته عن تعلم القراءة والكتابة إلا إنه كان مهتماً وشغوفاً بالأدب والعلم.
   فقد كان السلطان جلال الدين محمد أكبر يجلس ساعات طوال يستمع للكتب تقرأ عليه ممن يجيدون القراءة، وكان يمتلك مكتبة هائلة ضم فيها ألاف الكتب من حول العالم في مختلف الفنون وربما ذلك كان أحد أسباب اهتمامه بوضع الكتب التي تؤرخ لعهد أبيه وجده وفترة حكمهما، وطلبه من عمته جلبدن بيجم أن تكتب ذكرياتها عن تلك الفترة في جلبدن نامه.

النسخة العربية من كتاب "جلبدن نامه ... أميرة هندية تروي تاريخ الهند":

    نشرت النسخة العربية من كتاب "جلبدن نامه ... أميرة هندية تروي تاريخ الهند" عام 2009م من ترجمة الدكتورة منى مصطفى محمد يوسف، والتي اعتمدت في ترجمتها على النسخة الأصلية المتوفرة باللغة الفارسية والترجمات عنها باللغات الأردية والإنجليزية، وقد قسمت الكتاب إلى نصفين متساويين تقريباً، في النصف الأول تضمن شروحات وتعليقات ودراسات لتوضيح الخلفية التاريخية لحياة جلبدن بيجم وتأسيس الإمبراطورية المغولية في الهند، بدأتها بترجمة مقدمة المستشرقة البريطانية إيرج افشار التي وضعت الترجمة الإنجليزية لكتاب "جلبدن نامه ... أميرة هندية تروي تاريخ الهند".
   أتبعت المترجمة مقدمة إيرج افشار بدراسات لها –المترجمة العربية- حول اللغة الفارسية وآدابها وتاريخ إيران في العصر الصفوي التي ارتبطت بشكل ما بالإمبراطورية المغولية في الهند وقتها، وأيضاً دراسة مفصلة للمستشرقة البريطانية "أننت بيوريج" عن جلبدن بيجم وعائلتها في عهد سلاطين المغول الثلاث الذين عاصرتهم: أبيها بابر وأخيها همايون وابن أخيها الذي ماتت في عصره جلال الدين محمد أكبر، أما الجزء الثاني من الكتاب فكان ترجمة النص الأصلي لكتاب "جلبدن نامه ... أميرة هندية تروي تاريخ الهند" الذي كتبته جلبدن بيجم بنفسها.

ملاحظات حول كتاب "جلبدن نامه ... أميرة هندية تروي تاريخ الهند":

   تناولت جلبدن بيجم في كتابها جلبدن نامه تفاصيل وقائع الحياة السياسية والإجتماعية التي عاصرتها مع كلاً من أبيها الملك بابر وأخيها الملك همايون، ولكن على الرغم من الإحتفاء بالكتاب كعمل عظيم في الأدب الفارسي إلا إنني أرى أن روايتها للأحداث كانت رواية جافة حيث تعتمد على سرد وقائع محددة بما يشبه الأسلوب الصحفي في وقتنا مما يبعد العمل عن المجال الأدبي، وعلى الرغم من الإشارة إلى كون جلبدن بيجم كانت من النساء الشاعرات القلائل في عصرها وكانت تقرض الشعر باللغة الفارسية إلا إنني لم ألمس أي أثر شاعري أثناء روايتها لأحداث عائلتها والتي من المفترض أنها أكثر شيء قد يحرك مشاعرها، اللهم إلا حينما شبهت موت أخيها ميرزا هندال بغروب شمس حياتها.
   وعلى الرغم من أنني كنت أتوقع الكثير من سحر الشرق وغرائب الهند عند قراءتي لكتاب جلبدن نامه إلا إنه قد يكون السبب وراء ذلك هو رغبتها في توثيق حياة أبيها وأخيها كمهمة مكلفة بها من السلطان ولم تكتب بهدف شخصي لها حتى إنها لم تطرق لحياتها الشخصية بأي ذكر لزوجها أو ابنها إلا فيما يرتبط بالملكين بابر وهمايون، وفيما يبدو أن النسخة التي تم العثور عليها في الهند أثناء الاحتلال البريطاني للهند وأودعت في المتحف البريطاني، كانت نسخة ناقصة.
    فالنسخة الوحيدة المتوافرة لكتاب جلبدن نامه تنتهي بجملة غير مكتملة تصف فيها جلبدن بيجم سمل عيني أخيها المتمرد كامران ميرزا بأمر أخيهما الأكبر الملك همايون الذي عفا عنه أكثر من مرة سابقاً ولكنه كان يعود لخيانته مراراً وتكراراً وفي المرة الأخيرة كان حرض على قتل أخيهم هندال ميرزا والذي أفجع موته كل أخوته فما كان من كبار الدولة جميعاً إلا مطالبته بالقصاص منه وعدم العفو عنه هذه المرة، وبانتهاء جلبدن نامه عند هذه النقطة فهي لا تطرق إلى وفاة الملك همايون نفسه على الرغم من أنها عاشت سنوات طوال بعد ذلك.
   ومما سبق يتضح أن في الغالب قد فقدت بعض الأجزاء من أصل كتاب جلبدن نامه قبل أن يصل إلى أيدي المستشرقين البريطانين وتتم ترجمته، وهذا يعني فقد الكثير من التأريخ لتلك الفترة، خاصة وأنه من المعروف ذهاب جلبدن بيجم في رحلة حج مع نساء الأسرة الحاكمة في عهد السلطان جلال الدين محمد أكبر استمرت أربع سنوات، وربما تكون قد سجلت ذلك في النسخة الأصلية المفقودة من جلبدن نامه والتي كانت ستعد التوثيق الوحيد لرحلة حج على يد امرأة في ذلك العصر مما يعد خسارة كبيرة للتاريخ!

تعليقات

  1. مراجعة مفصلة ورائعة جدًا. شكرًا أستاذة سارة

    ردحذف
    الردود
    1. العفو، والشكر موصول لك على تواجدك الطيب

      حذف
  2. مجهود واضح ومشكور أنرتِ وأبدعتِ أستاذة سارة

    ردحذف
    الردود
    1. جزاك الله خيراً، أسعدني مرورك العطر

      حذف

إرسال تعليق

تعليقاتكم تثري موضوعاتنا وتساعدنا على الاستمرار فنحن نهدف إلى اثارة النقاش الجاد المفيد لكافة الأطراف حول الموضوعات المطروحة، ويسرنا أن نعلم ما إذا كانت المقالات تنال استحسانكم أم لا وما جوانب النفع أو القصور فيها، وماذا تأملون في المقالات القادمة؟