عالم يطن في أذني للكاتبة مروة مجدي

 

عالم يطن في أذني للكاتبة مروة مجدي
عالم يطن في أذني للكاتبة مروة مجدي

 

    كنت أتجول في معرض الساقية للكتاب وألقي نظرة على الكتب المعروضة، ولم يكن بي نية للشراء إذ أن غرفتي تعج بأكوام من الكتب غير المقروءة بعد، والتي ربما أحتاج عمراً فوق عمري لقراءتها، ولكنني وأنا أمر أمام واجهة عرض نيسان للنشر والتوزيع، كان المسئول عن البيع يعرض عليّ الروايات آملاً أن أشتري منها، ولكن لم يجذبني إي منها، ووجدت نفسي بلا وعي أمسك بهذه المجموعة "عالم يطن في أذني"، وأنا أتسائل عن ماهية هذا العالم، وصورة الغلاف المعبرة عن العنوان ولكنها تثير أيضاً كثير من التساؤلات التي تنمي الفضول.

   ربما تهفو كل نفس لما يشبهها، وأنا قاصة وأفخر بكوني ذلك؛ فتجذبني القصص أكثر من الروايات، وقد اشتقت منذ زمن أن أقرأ قصصاً لمتعتي فقط لا غير، ليس لهدف آخر، ليس لأنني سأحضر مناقشة المجموعة في فعالية ما وعليّ قراءتها لأشارك في المناقشة، ولا لأن الكاتب صديق وقد أرسل لي عمله طالباً رأيي المتواضع الذي يظن فيه خيراً، نعم الكاتبة صديقة لدي على الفيسبوك، ولكن لم تربطنا من قبل علاقة شخصية؛ فلا نعرف بعضنا البعض على المستوى الشخصي في الواقع.

   لم أقرأ لها من قبل؛ فلا أعرف الكثير عن مشروعها الأدبي الخاص، وبالتالي لن يكون هذا هاجساً لديّ طوال القراءة أن أحلل كل كلمة وفقاً لمعرفتي الشخصية بها، ولن أكون محملة بعبء عشم الصداقة والود في تكوين رأيي الخاص عما أقرأ، ستكون قراءة حرة من كل التوقعات هدفها المتعة الأدبية فقط لا غير، وأن أخوض غمار تجربة جديدة وعالم كاتب جديد لم أعرفه من قبل، أن أرى كيف يكتب الآخرون دون توقعات أو معرفة مسبقة.

   وكانت التجربة ممتعة كما آملت، على الرغم من كون أول قصص المجموعة "عالم يطن في أذني" كانت تتراوح ما بين التقريرية والمخاطبة المباشرة أو رمزية عالم الشعر كون الكاتبة شاعرة بالأساس -وأنا أتفه من هذا العالم الموغل في الرمزية الشعرية- إلا إن القصص التالية تدريجياً أوغلت في ذاك العالم الذي أحبه، الذي يندمج مع الذاتية؛ فيلامس كل روح، وكانت من قصص المجموعة الأولى أندروفوبيا؛ فكانت في جزئها الأول تقريرية مباشرة ولكن نهايتها الصادمة كانت تصلح لأن تكون مدخلاً لنصاً متكاملاً يغوص في النفس البشرية وتحولاتها.

   كذلك كانت قصص "على الناصية" و"مصر شو" و"معالي السفيرة" شعرت فيهم ببعض المباشرة والوضوح الزائد، أما قصتي "ويستمر اللقاء" و"الغريب" فعلى الرغم من شغفي الدائم بعوالم الروح إلا إنني شعرت ها هنا بتأثر الكاتبة بغموض كتابات الصوفية ورمزية الشعر، لن أقول إنني لم أفهم النص، ولكنه قد يغمض على قارئ لم يكن له تجربة من قبل في القراءة عن هذه الأمور ولا يدرك مغزاها، على أية حال كانت هذه هي فقط النصوص التي شعرت تجاهها ببعض من فقد التواصل معها.

   أما باقي النصوص فقد توحدت معها إلى حد الذوبان في بعضها، ويبدو جلياً تأثر الكاتبة وتعاطفها مع الطبقات الفقيرة الكادحة وما قد يعانوه ليحصلوا على لحظات سعادة بسيطة قد تنتزعها منهم الأيام بسرعة مذهلة؛ فلا يكادوا أن ينعموا بما يعوض سنوات الوحدة والحرمان كما في قصة "وارث" وقصة "بلا اسم"، وربما دفعتهم الحاجة لأن يكونوا سراق أو قاطعي طريق، ولكن جل ما يحتاجونه هو نظرة تعاطف ترى الإنسانية بداخلهم لتظهر منهم شهامتهم مثل "كالابالا" كما إنها محملة بأعباء الكتابة وتلك الأصوات التي تنخر رأس الكاتب ليل نهار ولا يستطيع الوصول إلى مصدرها علها تتركه يرتاح قليلاً في "الملاعين".

   وكما هي العادة يرفض المجتمع دوماً المختلف دون تقدير أو احترام لاختلافه أو البحث عن أسبابه؛ فيتعرض للنبذ والتجنيب دون ذنب اقترفته يداه حتى يظن أن لا مكان له في هذا العالم في "نصف إنسان" أو يكون مكانه مستشفى الأمراض العقلية بعد أن يرى العالم على حقيقته ويواجهه بها كما في القصة التي حملت المجموعة اسمها "عالم يطن في أذني"، والغارقين في الخطيئة حد أنهم لا يدركون حجم خطاياهم وإن لاموا أنفسهم لاموها على عدم التحرز من العقاب لا من ارتكاب الخطيئة نفسها في "نبيذ أبيض لم يعد يسكر".

    وكون الكاتبة أنثى؛ فهي لا تنسى أن قلمها عليه تجسيد آلام بنات جنسها اللواتي يعانون في صمت ولا يملكون قدرة البوح بآلامهم بعد أن حرمهم ذويهم حتى الحق في أن يكون لهم صوت ويقولوا كلمة لا؛ فيعيشون كالبضاعة التي يتم نقل ملكيتها من يد ليد دون أن يكون لها حق الرفض في "مقايضة"، أو أن يكون عليها أن تتبع حتى طريق الجهل لتدافع عن حقها في كونها أنثى محبوبة بلا أسباب أخرى كما في "زار".

   ولا أظن أنني قرأت نصاً قد يعبر عن وحشة الزهايمر كما فعل "شمل مبعثر"، وفي "سفر" كان التعبير الأصدق عن سفر الروح وتجوالها، وتواجه الكاتبة فساد نفوس المجتمع في عدة نصوص ففي "مندل" تحارب الخرافة والجهل، وفي "كل شيء على ما يرام" تعري دوافع ونتائج الخيانة الزوجية للمرأة وأعتقد أن جملة "سأعتكف عدة أيام في المسجد" على قدر بساطتها إلا إنها ترمي لما هو أبعد من ذلك، "إن لزوجك عليك حقاً"، وكذلك في قصة "الكهف".

  وفي "غرفة تتسع لبحر" كانت الحياة الضائعة في الخوف من التجربة والعيش في وهم الضياع، وهو الخوف الذي يورثه الآباء للأبناء، ولا زالت تلقي الضوء على معاناة الأبناء من أخطاء والديهم التي يستمرون في تحملها بلا سبب يعونه في "حجر يذوب" و"عالم يتلاشى"، أو حتى وراثة جرائرهم التي قد تكدر حياة الجميع فيما بعد كما في "انتصار بسمة" ولكن من رحم المعاناة يولد الأمل وبراءة الطفولة تظل هي المنتصر، ويبدو أن الكاتبة مرهفة الحس تجاه الحيوانات البريئة؛ فهي تتعاطف مع الفأر وتجعله بطلاً للقصة يحكي مأساته مع بني آدم وسوء معاملتهم له في "فأر التجارب"، وإن كنت أعتقد أن القصة ترمي برمزية لأبعد من ذلك.

   وأيضاً في "السباحة في الشوربة" تتعاطف مع الأرنب الذي يُذبح بقسوة بدون ذنب جناه ويكون المبرر لذلك هو حبهم له "لأكله بالطبع"، مع ما يحمله ذلك لقتل مشاعر براءة الطفولة في الطفلة بطلة القصة التي اعتبرت الأرنب صديقاً لها وكان قتله ذنب غادر بات يؤرقها، ومشاعر الحب تجاه الأجداد في "الصالون" و"رائحة" التي ذكرتني بجدتي رحمها الله وبكيت معها، وفي "ملاذ سري" عبرت عن رغبتي الدفينة وحلمي الدائم بأنني يوماً ما سأتمكن من الطيران وأحلق بعيداً.

    ولم تكن فقط هذه هي الرغبة الدفينة الوحيدة؛ فقد لامست الكاتبة رغبات كثيرة قد تكون لدى كل أنثى تحلم يوماً أن يأتي فارس أحلامها ليحققها لها كما في "كروان"، أو ربما أتى غادراً كاذباً يستمتع باللهو بقلوب الفتيات كما في "خيانة كيوبيد"، ولكننا لا نستسلم للخيانة ولا ندعها تكسرنا، أو ربما لو وجدناه وفياً على استعداد لأن يضحي لأجلنا ويبدأ معنا من جديد باتت قيود المجتمع وأفكار زرعها داخلنا على مر السنين عائقاً أن نمضي معه قدماً كما في "اللاوجهة".

  وتنتهي المجموعة القصصية عالم يطن في أذني للكاتبة مروة مجدي بنصها الأخير "أخيراً وجدتها" وهو التعبير الأصدق عن ختام الرحلة، فإننا سنتخلص من طنين العالم عندما نتوحد مع الطبيعة ونصير جزءاً منها بعيداً عن كل تلك المشتتات التي اخترعناها لتزيد الطنين من حولنا؛ فلا ننعم لحظة براحة ولا نذق معنى للسعادة، ولكني عشت الراحة والسعادة في رحلتي بين ثنايا هذه المجموعة، على الرغم من قصر نصوصها؛ فكل نص قد لا يتجاوز طوله الصفحتين من القطع المتوسط.

   إلا إنها تحمل وجبات دسمة مكثفة مشبعة من المتعة، وأتمنى يوماً أن تمكنني الحياة أن أجد نفسي بين أرجاء الطبيعة الأم.

تعليقات