قراءة في رواية تغريبة القافر للكاتب العماني زهران القاسمي

قراءة في رواية تغريبة القافر للكاتب العماني زهران القاسمي
قراءة في رواية تغريبة القافر للكاتب العماني زهران القاسمي

 

 

    رواية تغريبة القافر للكاتب العماني زهران القاسمي هي الرواية الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر لعام 2023، وقد اشتريتها العام الماضي خلال جولة زهران القاسمي في مصر بعد حصوله على البوكر، وكانت آخر محطات جولته في مكتبة ميكروفون الدقي بتاريخ 25 أغسطس كما هو مدون على الإهداء، أي أننا قاربنا على إتمام العام كاملاً، وكالعادة وصلت متأخرة على ندوة المناقشة؛ فلم ألحق إلا توقيع الرواية بعد المناقشة، ولكنه ليس ذنبي؛ فأنا لا أدري أساساً لم يقيمون ندوات في السادسة أو السابعة مساءً صيفاً والشمس لا زالت في كبد السماء؟! هل لديهم ثأر ما لا أعرفه مع توقيت الساعة الثامنة مثلاً؟!

   ما علينا، ولكنني كما وصلت متأخرة إلى ندوة المناقشة، تأخرت أيضاً في قراءة الرواية رغم اقتنائي لها، انشغلت بين الكثير من الأمور وتنقلي ما بين القاهرة وأسيوط والدراسة والعمل؛ فلم أبدأ في قراءتها إلا في الفترة الحالية، على أية حال لا أحب القراءة التابعة للموضة، لقد كان الجميع يقرأها العام الماضي بسبب حصولها على البوكر، ولكنني قرأتها الآن على مهل وفقاً لذوقي أنا لا ذوق البوكر أو ذوق قراء البوكر، وربما هي الرواية الأولى التي أقرأها من بين الروايات الحائزة على البوكر العربية منذ بدايتها.

   وبعيداً عن أجواء البوكر وتفصيلات أسباب منح الجائزة من عدمها، إلا أن رواية تغريبة القافر للكاتب العماني زهران القاسمي هي من نوع الروايات التي أحب، وأظن أن لأجل هكذا أعمال تم اكتشاف الأدب وقرأه الناس، فمثل هذه الأعمال تسافر بك إلى عوالم أخرى ربما لن تتمكن يوماً من زيارتها، وتجعلك تعيش في عصور ربما لن يعود لها الزمن يوماً وفاتك أن تعيشها، وتلتقي بأناس وتشاركهم حيواتهم وأنت لا زلت قابعاً في مكانك على فراشك أو مقعدك بمنزلك أو في وسيلة مواصلات مزدحمة تنسى وجودك بها لتغرق في عالم آخر لم تكن تعرف شيئاً عن وجوده.

   تسافر بنا رواية تغريبة القافر للكتاب العماني زهران القاسمي إلى قرى الصحراء العمانية في زمن ما قبل انتشار الحضارة والنفط، لنعيش معها أجواء هذه القرى، وكيف كان يحيا الناس، وينقل لنا أجواء التراث العماني الذي ربما لم يعد كما كان مع انتشار التكنولوجيا والإنترنت، على الرغم من كون لدي صورة ذهنية خاصة حول خصوصية المجتمع العماني وتفرده ربما لإننا لا يصلنا الكثير عنه، ولا أعلم حقيقة هذه الصورة من عدمها، ولكن حتى مع اختلافه إلا أن الرواية تزيح الستار عن كثير مما لا يصلنا؛ لنكتشف أن رغم اختلاف الظروف والأزمان والأماكن تظل طباع البشر واحدة في كل زمان ومكان.

   فأهل القرى العمانية على الرغم من صحراواتها ومعاناتها من الجفاف والبحث عن الأفلاج والمياه الجوفية لإعادة الحياة إليها كل حين، يتشابهون أيضاً مع أهل القرى المصرية الذين ينعمون بوفرة مياه النيل ويحيون على ضفافه، فكما قد تجف مياه الآبار وتضن السماء على أهل عمان بأمطارها، أو ينفتح خاتم الفلج أثناء البحث عن مصدر للمياه؛ فيغرق في طريقه الأخضر واليابس، فقد كان أهل مصر أيضاً يعانون في القديم من جفاف النيل في بعض المواسم وفيضانه في أخرى، قبل بناء السد العالي، وربما نعاني هذا الجفاف ثانية في القريب والله المستعان.

   أما بالنسبة لطباع أهل القرى فهم يشتركون جميعهم في حب الحديث والنميمة وظلم الفقير من لا ظهر له ولا سند والخوف من أصحاب السيادة والرفعة والمال ونبذ المختلف عنهم ولو كان اختلافه وتفرده موهبة يمكنها أن تجر عليهم الكثير من الفائدة، وهذا ما حدث مع القافر بطل الرواية والكثير من الشخصيات الثانوية التي أتت الرواية على ذكرها، وربما أهتم الكاتب زهران القاسمي بذكر عدد كبير من الشخصيات الثانوية التي لم يكن لها دور فاعل حقيقة في أحداث رواية تغريبة القافر؛ ليوثق لحياة القرية ومعتقدات أهلها أكثر من كونه محرك للأحداث.

   ولكن على الرغم من هذا كان الأمر مسهباً في بعض الأوقات، وربما أكثر قصة فرعية شعرت بالتشتت حيالها هي قصة آسيا مرضعة سالم القافر مع زوجها؛ فعلى الرغم من أهمية شخصية آسيا في حياة بطل رواية تغريبة القافر إلا إن الكاتب أراد إزاحتها من النص الروائي بسفرها إلى زوجها الذي هجرها سبع سنوات لتبقى إلى جواره، لا مشكلة لدي في هذه التفصيلة فهي قد تفضل حياتها إلى جوار زوجها الذي أحبته رغم كل شيء عن أن تهب حياتها لابن من الرضاع ربته ست سنوات ولكن لديه أم بديلة على أية حال.

   ولكن ما أراه تفرعاً لا طائل من وراءه عن النص الروائي الأصلي هو تتبع حياتها لفترة مع زوجها حتى برئ من مرضه، ولا أظن هذا كان له أي علاقة بأحداث الرواية أو تأثير على شخصية البطل أو الشخصيات الرئيسية الأخرى؛ فلا أظن أحد منهم عرف بما حدث من الأساس، نحن كقراء فقط من علمنا بخط سيرها مع زوجها خلال هذه الفترة، كما أن قصة زوجها أيضاً تحوم حولها التساؤلات؛ فمن المفترض أنه ترك القرية ليذهب إلى مسقط ويستفيد من طلاوة لسانه ومعرفته بفنون الحديث ويكون له مستقبل ذو شأن.

    ولكن نجد أن كل ما فعله هو أنه كان يذهب إلى قرى أخرى لاستصلاح أراضيها ثم بيعها للآخرين، وهذا أمر كان بإمكانه فعله في قريته، ولا علاقة له بطلاوة لسانه وإتقانه فنون الحديث، بل إنه حتى لم يكن يتعامل مع سكان هذه القرى ولا يخالطهم من الأساس، كان هذا بمثابة علامة استفهام كبيرة بالنسبة لي، ولو أن الكاتب زهران القاسمي ترك أمر آسيا مرضعة سالم أنها سافرت للحاق بزوجها حين طلبها دون أن يذكر تفاصيل أخرى لكان أوقع، خاصة وأنها لم تظهر مرة أخرى بعد ذلك، فلو كانت ستعود هي وزوجها للقرية في النهاية ويكون لهما دور ما لكان لقصتهما التي تم ذكرها مبرراً فنياً.

   بخلاف ذلك أجد أن القصص الفرعية الأخرى التي تم سردها خلال النص الروائي، على الرغم من أن البعض قد يراها تشتيتاً عن الأحداث والشخصيات الرئيسية، إلا أنها من وجهة نظري ساهمت في التأريخ للقرية عند القارئ وتبرير أساطيرها وطريقة تعاملهم مع الأحداث؛ فهم أناس يحيون على الأساطير والقصص الخرافية التي يضفوها على كل غريب وشاذ عما اعتادوا عليه، وهذا يبرر تصرفاتهم، كما إن هذه القصص الفرعية تدخل القارئ في جو القرية والتراث العماني، خاصة القارئ الذي لم يحتك بهذا العالم من قبل، وقد يجد تشابهاً بينه وبين عالمه يعطيه شعوراً بالألفة والحميمية ويجعله أكثر اندماجاً في القراءة وتعاطياً مع العمل.

   عادة بعد الانتهاء من قراءة أي عمل أقوم بقراءة ما نُشر عنه في الصحف والمجلات، وكذلك التقييمات على مواقع القراءة المختلفة، أتمنى أن أتوقف عن هذه العادة يوماً ما لأنها كثيراً ما تحرق دمي، ومن الآراء التي حرقت دمي فعلاً ما كان يلوم على الكاتب زهران القاسمي وعلى جائزة البوكر في تتويجها للرواية لكونها رواية تقليدية تحكي عن أمر عادي، وأن الكاتب أهدر فكرة رائعة كان يمكنه استثمارها بشكل غرائبي فانتازي فإذا به يتناولها بطريقة تقليدية وحكي تقليدي!

  لا أعلم من الذي صور لبعض البشر أن الكتابة والتأليف يجب أن تكون عن عوالم غرائبية وربما كائنات تطير وتتسلق الفضاء وحوادث تخترق المألوف لتستحق أن تتوج بجوائز ويتم النظر إليها؟! لا ضير بالتأكيد من الخيال وخلق عوالم خرافية كأفتار وإكس مين ومصاصين الدماء والمستذئبين وما شاء لهم خيالهم أن يخلقوه، ولكننا أيضاً بحاجة إلى الأدب الذي يوثق حياتنا، الذي يحكي عنا كبشر طبيعيين، كأناس عشنا وما زلنا نعيش على هذه الأرض ولم تنبت لنا أجنحة بعد، نعيش في عالم طبيعي لا هو ديستوبيا ولا هو يوتوبيا، به الصالح وبه الطالح.

   وليس معنى تمتع سالم بقوة سمع أكثر من الطبيعي أن هذا أمر غرائبي فانتازي؛ فالحقيقة أن كثير منا يولدون بمواهب زائدة عن الطبيعي، ولنا في زرقاء اليمامة خير مثال؛ فهي لم تكن شخصية خرافية أو غرائبية بل كانت بشرية طبيعية ولكن حباها الله بقوة نظر أزيد من الطبيعي، كما حبا أم كلثوم مثلاً بقوة صوت كانت تؤدي إلى انفجار الميكروفونات أمامها، فلم يكن معنى قوة سمع القافر أننا أمام رواية فانتازية غرائبية، بل هي رواية طبيعية ابنة بيئتها تؤرخ لموقعها.

   ومن الآراء التي أثارت أعصابي كان أحد الآراء التي تأخذ على رواية تغريبة القافر كونها تناولت موضوع الآبار الجوفية واستخراج المياه منها وحفر الأفلاج وما إلى ذلك، بأن هناك رواية ما في أسبانيا تناولت أيضاً موضوع الآبار الجوفية واستخراج المياه منها، حقا؟! هل أصبحت الآبار حكراً على دولة معينة؟ ثم هل إذا تناول كاتب ما في السودان مثلاً علاقة السودانيين بالنيل، أضحى من الممنوع على أي كاتب مصري أن يتحدث عن النيل لأن هناك كاتب سوداني كتب عنه؟! ما هذا الهراء؟! وهل علاقة الأسبان وحياتهم مع آبارهم الجوفية هي نفس حياة العمانيين؟!

   لأجل هذا أريد التوقف عن قراءة مراجعات الآخرين، فليذهبوا للجحيم جميعاً مع آرائهم، المهم أن العمل أعجبني أنا، ولأن نهايته كانت شبه مفتوحة؛ فلا زال يحدوني الأمل أنه سينجح يوماً ويعود إلى نصرة بعد طول غياب؛ لتهيل عليه عتابها الذي ادخرته طوال تلك الأيام القاسية، وتلقي بنفسها في حضنه؛ فيعود الضلع إلى أصله، وينام جفنيها بأمان بعد طول سهر وعذاب.

تعليقات