خلوة الغلبان إبراهيم أصلان

 

خلوة الغلبان إبراهيم أصلان
خلوة الغلبان إبراهيم أصلان

 

    يوحي العنوان "خلوة الغلبان" للوهلة الأولى بالخلوة التي قد ينفرد فيها الكاتب بنفسه ليسجل تأملاته ويدون كتاباته ويندمج في عالمه الخاص، وعلى الرغم من أن هذا المعنى يتناسب مع مضمون كتاب خلوة الغلبان للكاتب إبراهيم أصلان، إلا أن هذا ليس المعنى الحرفي المقصود من العنوان، فالمقال الذي يحمل نفس العنوان يحكي عن كاتب يهودي فرنسي مصري الأصل يدع جاك حسون التقاه إبراهيم أصلان في معرض الكتاب بفرنسا، حيث كان حريصاً على لقاء الوفد المصري ومرافقته.

   وقد حكى جاك حسون لإبراهيم أصلان عن ذكريات الستة عشر عاماً الأولى من حياته التي قضاها في مصر قبل ترحيلهم منها مع اليهود الذين تم ترحيلهم من مصر، وعن مدى شوقه لمصر ولقريته التي نشأ بها في المنصورة والتي تدعى "خلوة الغلبان" وكان إبراهيم أصلان لأول مرة يسمع عن قرية بهذا الاسم؛ فاسترسل جاك حسون في وصف القرية وذكريات طفولته بها، وحرصه على السفر إلى مصر خصيصاً مؤخراً ليحضر نفحة تراب من قريته ينثرها على قبر والديه.

    وفي نهاية لقائه بالوفد المصري أصر على دعوتهم على الغداء في منزله قبل رحيلهم ليعرفهم إلى عائلته ويتعرف أولاده على مواطنيه المصريين الذين طالما حكا لهم عنهم، ووعدوه بتلبية دعوته وكان يتصل بهم يومياً ليذكرهم بذلك، ولكنهم أخلفوا موعدهم معه لتفضيلهم حضور مؤتمر هام عن تلبية دعوة منزلية ليهودي لا يعرفون عنه شيئاً! ولكن إبراهيم أصلان ضميره يؤنبه على تجاهل دعوة الرجل، وعندما يعود لفرنسا بعد سنوات يتذكر هذا الموقف ويحاول البحث عن عنوان للرجل حتى يعوض ما حدث.

   ولكنه يفاجأ بخبر في أحد الجرائد الفرنسية ينعي وفاة عالم النفس والكاتب الكبير جاك حسون مصري الأصل الذي أثرى المكتبة الفرنسية بدراساته عن مصر والهوية المصرية، وقد فكر إبراهيم أصلان في كتابة رواية تحمل اسم خلوة الغلبان ولكن يبدو أنه لم يوفق لذلك فارتأى أن تكون عنواناً لكتابه هذا، ولمقاله الذي استرجع فيه ذكرياته مع هذا الكاتب المصري وعالم النفس الذي عرفته فرنسا وجهلته مصر التي طالما أشتاق لها في غربته التي أجبر عليها وتجاهله أبنائها فقط لأنه يهودي، ويوحي المقال بندم إبراهيم أصلان على عدم معرفته بالرجل في حياته وعدم تلبية دعوته.

   وهكذا يسير الكتاب على هذا المنوال حيث يتضمن ذكريات الكاتب إبراهيم أصلان في عالم الكتابة والثقافة في مصر، وما يتعرض له الأدباء والمثقفون من غبن وفقر وحاجة وعدم التفات الدولة لهم، وعلاقته بالعديد من الكتاب الكبار، أمثال: عباس محمود العقاد الذي لمحه مرة واحدة في الشارع قبل وفاته بشهرين ولم يجرؤ على الإقتراب منه، ونجيب محفوظ الذي زكاه وأوصى له بمنحة التفرغ الثقافي التي كانت سبباً في كتابته لروايته الأشهر مالك الحزين التي تحولت لفيلم الكيت كات.

   وينتهي الكتاب بمقال مؤثر عن صديقه الكاتب السكندري محمد حافظ رجب، الذي بدأ حياته بائعاً للب والسوداني في الإشارات وكان يكتب القصص القصيرة، حتى أرسل له يوسف السباعي أن يأتي للقاهرة، وجاء محملاً بالأحلام والأمنيات ولكنه صُدم بالواقع، حيث لم يحصل سوى على عمل صغير بدخل بسيط في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب لم يمكنه إلا من استئجار غرفة متر في مترين على سطوح أحد العمارات لم تتسع سوى لسريره فقط، وبعد أعوام من خيبة الأمل يعود إلى الإسكندرية ليبقى موظفاً في أرشيف المتحف الروماني حتى وفاته.

   ويورد إبراهيم أصلان في هذا المقال أحد الرسائل التي أرسلها له من الإسكندرية، وهي رسالة أدبية رائعة، وإنني إذ أقرأها أتسائل لو أن كل كتاب هذا العصر كانوا يتراسلون بهذه الطريقة، فإن من الأهمية بمكان أن تنشر تلك الرسائل في كتب أدبية لتخلد إلى الأبد، وتبقى شاهداً على عصر لم تكن الرسائل فيه تختزل بإيموجي إلكتروني لا معنى له، وكيف كان الناس يصيغون من حوادث حياتهم ومشاعرهم رسائل تنضح أدباً، وأن الأدب لا يقتصر على ما تضمه الكتب من قصص وروايات ودواوين شعرية تكتب في الأساس للأدب، بل إن الأدب قد يوجد في كل كلمة ينطق بها متأدب عفو الخاطر.

   كتاب خلوة الغلبان للكاتب إبراهيم أصلان يسلط الضوء على مواقف وأحداث في حياته قد تبدو عادية ومن السهل أن يتعرض لها أي منها في حياته، ولكنه يجيد اقتناص تلك المواقف ليصورها بقلمه؛ فتجد نفسك مذهولاً إذ كيف لم تتمكن أنت أيضاً من تسجيل مواقفك المشابهة بنفس الطريقة وكيف مرت عليك مرور الكرام ولم تجد فيها ما يثير انتباهك، ولكنه ذاك السهل الممتنع، فإبراهيم أصلان كان يشبه الكتابة بصورة الكاميرا، إذ تلتقط مشهداً تراه كل العيون ولكنها تؤطره بطريقة خاصة تجعله مثيراً للاهتمام.

    كم تمنيت أن أمتلك تلك القدرة على اقتناص هذه اللحظات، ولكنني كثيراً ما أفشل للأسف!


   هل قرأت كتاب خلوة الغلبان للكاتب إبراهيم أصلان من قبل؟ شاركني بإنطباعتك وآرائك حول الكتاب أو حول مؤلفات الكاتب إبراهيم أصلان بشكل عام، كما يسعدني تقبل إقتراحاتكم حول الكتب التي نتحدث عنها في التدوينات المقبلة.

تعليقات

إرسال تعليق

تعليقاتكم تثري موضوعاتنا وتساعدنا على الاستمرار فنحن نهدف إلى اثارة النقاش الجاد المفيد لكافة الأطراف حول الموضوعات المطروحة، ويسرنا أن نعلم ما إذا كانت المقالات تنال استحسانكم أم لا وما جوانب النفع أو القصور فيها، وماذا تأملون في المقالات القادمة؟