قراءة لقصتي دموع الأمل في نادي أدب أسيوط

الفراشة التي حلقت في سماء الحرية

 

غلاف كتاب الفراشة لهنري شاريير
غلاف كتاب الفراشة لهنري شاريير



     منذ فترة شاهدت فيلم بابيلون الذي قام فيه الممثل الأمريكي مصري الأصل رامي مالك بالدور المساعد، وشدتني كثيراً قصة الفيلم وأحداثه، وعندما حملت كتاب الفراشة للفرنسي هنري شاريير في نسخة إلكترونية من أحد المواقع على الإنترنت لم أكن أعرف أنها السيرة الذاتية التي استمد منها فيلم بابيلون قصته، ولكنني أدركت ذلك فور قراءتي للصفحات الأولى بعد ملاحظتي لتشابه البدايات والأحداث، ولكن في بداية قراءتي لكتاب الفراشة شعرت ببعض الممل يتسرب إلى نفسي.

رحلة القراءة في كتاب الفراشة لهنري شاريير:

    ربما لأن هنري شاريير ليس أديباً أو كاتباً بالأساس فكان يفتقر إلى بعض التشويق خاصة مع إسهابه في شرح وتصوير اللحظات الأولى من محاكمته وسجنه، أو ربما لشعوري أنني رأيت تلك الأحداث سابقاً وما من جديد لذا شعرت بالملل، ولكن لعلة في وربما ميزة، فإنني إذا ما بدأت أمر ما لا أتركه حتى أنهيه، فكذلك إذا بدأت في قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم لا أتركه حتى أنتهي منه مهما تسرب لي الملل أثناء القراءة أو المشاهدة.

    وهكذا استمريت في قراءة الكتاب حتى النهاية، وقد تبين لي فيما بعد جدوى هذا الإستمرار؛ فعلى الرغم من أن فيلم بابيلون يعتمد فعلاً على السيرة الذاتية لهنري شاريير من كتاب الفراشة، إلا إنه ولأسباب إنتاجية ربما أو لضيق الوقت أغفل الكثير من الأحداث والشخوص أثناء العرض، والتي تتضمن الكثير من المتعة والإثارة؛ فعلى الرغم من تقديم كتاب الفراشة على إنه رحلة هروب سجين حكم عليه ظلماً بالسجن مدى الحياة في أشد السجون ظلمة وتعذيباً في فرنسا لجريمة لم يقترفها، إلا إنها في الحقيقة رحلة مغامرة ممتعة.

    أثناء قراءتي في كتاب الفراشة تمثل لي كتاب رحلة ابن بطوطة وما حواه من مغامرات مماثلة وتشويق، فهنري شاريير في محاولات هروبه المتكررة تنقل في بلدان مختلفة وعاش حيوات متنوعة في كل بلد وحتى في السجون التي دخلها تعرف على أناس مختلفين وسرد تجاربهم المتنوعة التي تمثل إثراءً هائلاً للقارئ عن حيوات لن يتسنى له أبداً أن يعيشها، وهذا ما أغفله فيلم بابيلون الذي عرض لمشاهد سريعة عن محاولات هروبه المتكررة دون الدخول في تفاصيلها والتركيز بشكل أكبر على معاناته في السجن.

   ويقال أن كتاب الفراشة كان أحد الأسباب الرئيسية لإلغاء عقوبة الإعدام في فرنسا وإغلاق سجن جزيرة الشيطان في جزيرة غويانا الفرنسية الواقعة في أمريكا الجنوبية والذي تحول الآن إلى متحف ومركز فضائي، وعلى الرغم من معاناة هنري شاريير ورفقائه في السجن التي صورها في كتابه والتي أقامت الدنيا في فرنسا ولم تقعدها إلا بإتخاذ الإجراءات سالفة الذكر ومنحه عفواً تاماً عن الجريمة المنسوبة إليه والسماح له بالعودة إلى فرنسا بعد أن أمضى حياته بعد نجاحه في الهروب من السجن في دولة فنزويلا التي سمحت له بالإقامة فيها وحصل على جنسيتها بعد أن أثبت جدارته كمواطن شريف.

   أقول بالرغم من هذه المعاناة التي تثير استنكار المواطن الغربي إلا أن القارئ العربي قد لا يجد نفسه متعاطفاً بشدة مع هذه المعاناة، فمن يعرف سجيناً في أي سجن عربي يدرك تماماً أن تلك معاناة المذكورة ما هي إلا نزهة وترويحاً للنفس بالنسبة لأولئك المساجين في السجون العربية، فوفقاً لما ذكره في كتابه كان يتمتع هو ورفقاءه في السجن بالحرية التامة على جزيرة الشيطان تلك، حيث يعملون ويجنون النقود ويزرعون ويأكلون ما طاب لهم مما يزرعوه وحتى كانوا يقيمون علاقات غرامية وجنسية مع زوجات السجانين والضباط المقيمين على الجزيرة.

   الشيء الوحيد الذي كان ينقصهم في السجن هو حرية مغادرة الجزيرة والعودة لذويهم والإلتقاء بأحبائهم وقتما شاءوا، والمعاناة الحقيقية كانت تتمثل في عقوبة السجن الإنفرادي التي تطول لسنوات جزاءً لمن يحاول الهروب، ولكن فيما عدا ذلك كانت الحياة تسير بأريحية شديدة لذا استطاب للكثيرين المقام ولم يلجأوا للهروب بعكس هنري شاريير الذي كان الهروب ونيل حريته كاملة هاجسه الأوحد، ربما لكونه بريئاً من الأساس ولم يقترف جرماً يقنع أنه لا بد أن ينال عقاباً عليه ويرضى به.

المقارنة بين فيلم بابيلون وكتاب الفراشة لهنري شاريير:

أفيش فيلم بابيلون
أفيش فيلم بابيلون


   من الملاحظات الأخرى أيضاً في المقارنة بين مضمون فيلم بابيلون وكتاب الفراشة، أن فيلم بابيلون ضمن العديد من شخصيات المساجين الذين جاء ذكرهم في الكتاب في شخصية لويس ديغا التي قام بها رامي مالك وجعله شاباً صغيراً ربما أصغر من هنري شاريير نفسه على الرغم من كونه في الحقيقة كان رجلاً في الخامسة والإربعين من عمره بينما هنري شاريير كان شاباً صغيراً في الخامسة والعشرين من عمره عندما دخل السجن، ولويس ديغا لم يرافقه في محاولات هروبه من الأساس حيث كان يفضل انتظار حصوله على براءة أو عفو نظراً لكبر سنه وإنما كان فقط صديقاً ناصحاً مخلصاً له خلال فترة سجنهم معاً.

   علمت فيما بعد أن هناك نسخة قديمة صدرت عام 1973 من فيلم بابيلون، ولكن مما قرأته عنها فهي أيضاً تتضمن نفس الفروقات بين الفيلم والكتاب، غير أنها تعرضت لفترة هروبه في القبيلة الهندية وزواجه منها وإن لم يذكر أنه تزوج أختين معاً في نفس الوقت، ولكن تمادى فيلم بابيلون نسخة عام 1973 ليذكر أنه لم ينجح في الهروب إلا وقد تجاوز الخمسين من عمره، بينما هو في الحقيقة لم يمض سوى عشر سنوات فقط في السجن حيث تمكن من الهرب وهو في الخامسة والثلاثين.

نهاية كتاب الفراشة لهنري شاريير:

صورة شخصية لهنري شاريير
هنري شاريير

   ينتهي الكتاب بذكره لاستقراره مع زوجته في فنزويلا بعد أن حصل على جنسيتها، ولكنه لا يخبرنا إن كانت زوجته تلك هي الزوجة الفرنسية الأولى التي وعدته بانتظاره في المحكمة قبل أن يدخل السجن أم زوجة جديدة تزوجها في فنزويلا، وماذا عن زوجتيه الأختين الهنديتين (غالباً هم من الهنود الحمر) اللاتي تركهن وهن حوامل بأبنائه على وعد بالعودة بعد أن يحقق انتقامه؟ هل عاد لهما يوماً وتعرف بأبنائه أم أنه نسي أمرهم؟!


تعليقات