قراءة في رواية ميرامار لأديب نوبل نجيب محفوظ

قراءة في رواية ميرامار لأديب نوبل نجيب محفوظ
قراءة في رواية ميرامار لأديب نوبل نجيب محفوظ




   قرأت رواية ميرامار لأديب نوبل نجيب محفوظ أول مرة منذ سنوات حينما كنت لا أزال فتاة مراهقة صغيرة، أذكر أنها لم ترق لي في حينها ولم أفهم منها شيئاً، فعلى الرغم من عشقي للقراءة منذ نعومة أظافري إلا أنني في حقيقة الأمر كنت مغرقة في التفاهة، فلم يكن يثير اعجابي ويلفت انتباهي سوى الروايات الرومانسية المغرقة في مشاعر الحب الفياضة، والحق أقول أنني لا زلت أنجذب لذلك النوع من الروايات ولكن الفرق أنني قد نمت مداركي إلى حد ما بحيث يمكنني استيعاب غيرها.
  أذكر أنني حينما قرأت رواية ميرامار للروائي نجيب محفوظ في تلك الأيام البعيدة قرأت أيضاً في نفس الوقت رواية دقة قلب للكاتبة الأمريكية دانيال ستيل، وبالطبع رجحت كفتها وقتها، واليوم بعد سنوات من هذه الفترة أكتشف كم كنت فتاة سطحية حمقاء، فقد أعدت قراءة رواية ميرامار مؤخراً لأكتشف أنني لم أقرأها أصلاً سابقاً، إنها رواية لا يمكن قرائتها وسبر أغوارها بتلك النظرة السطحية للحياة.

شخصيات رواية ميرامار لأديب نوبل نجيب محفوظ:

    اعتمد الروائي الكبير نجيب محفوظ في رواية ميرامار على أسلوب تعدد الرواة والذي كان يعتبر أسلوباً ثورياً في الرواية العربية وقتها، حيث يتم سرد أحداث الرواية أكثر من مرة، كل مرة فيها على لسان ومن وجهة نظر أحد الشخصيات، وعلى الرغم من أن كثير من الأحداث قد تكون مكررة إلا أن رؤيتها من وجهة نظر مغايرة تضفي عليها مزيداً من العمق والإثارة، وقد اعتمد نجيب محفوظ على أربع رواة في سرد رواية ميرامار، هم:

-        عامر وجدي: صحفي كبير ناهز الثمانين من العمر، مات كل معارفه وأقاربه وأضحى وحيداً في هذه الحياة بعد أن مر العمر به دون زواج أو أبناء فلم يعد له أنيس أو جليس؛ فيضطر للجوء إلى بنسيون ميرامار وصاحبته ماريانا التي تجمعه بها معرفة وصداقة قديمة.
-        حسني علام: شاب من أعيان محافظة طنطا يمتلك وحده عشرين فدان ورثها عن عائلته ولم تمتد إليهم قوانين الإصلاح الزراعي، ولكنه غير متعلم حيث لم يهتم بالتعليم في صغره ولم يفطن إلى أهميته حتى اصطدم بهذا الواقع عندما حاول الاقتران بإحدى قريباته التي رفضته لهذا السبب؛ فيلجأ إلى الإسكندرية وبنسيون ميرامار مدعياً رغبته في تنفيذ مشروع كبير يرفع من مكانته الاجتماعية ولكنه يمضي وقته لاهياً لاهثاً وراء المتع المختلفة طارقاً بيوت البغايا من حين لحين، شعاره في الحياة "فركيكو لا تلمني" والتي أصبحت أهم لازمة في رواية ميرامار.
-        منصور باهي: شاب صغير في مقتبل العمر مذيع في إذاعة الإسكندرية، أتى لبنسيون ميرامار إذعاناً لرغبة أخيه الأكبر الظابط الكبير ليبعده عن انتمائاته السياسية في القاهرة، بينما يتخبط هو بين احساسه بالعجز والخيانة واليأس.
-        سرحان البحيري: شاب من المنتفعين بالثورة التي جعلت له مكانة اجتماعية وسياسية في المجتمع، حيث أصبح وكيل حسابات شركة الإسكندرية للغزل وعضو مجلس الإدارة وعضو الاتحاد الإشتراكي، أحب زهرة وأوقعها في غرامه ولكنه رفض الزواج منها لضآلة مكانتها الاجتماعية والثقافية والمادية، خطط لسرقة الشركة التي يعمل بها وافتضح أمره فانتحر ويمثل انتحاره عقدة رواية ميرامار التي يسعى كل راو من الرواة لفكها في سرده.

  لم يكن هؤلاء الشخوص الذين تم من خلالهم سرد رواية ميرامار هم الأشخاص الرئيسيين وحدهم في رواية ميرامار بل إن هناك شخوصاً أخرى لم يتناوبوا السرد، هم:

-        زهرة: تعتبر زهرة أهم شخصيات رواية ميرامار للأديب نجيب محفوظ وإن لم تتناول السرد على لسانها ومن وجهة نظرها إلا أنها كانت هي محرك الأحداث التي يلتف حولها الرواة ولولا وجودها ما كان هناك أحداث من الأساس، فزهرة هي فتاة ريفية من الزيادية بمحافظة البحيرة أتت لبنسيون ميرامار تلجأ عند صاحبته ماريانا التي تعرفها من خلال أبيها المتوفى الذي كانت تأتي معه يبيعون لها السمن والزبد، وقد هربت من القرية بعد وفاة أبيها لرغبة جدها في تزويجها من رجل عجوز في مثل عمره لتخدمه طمعاً في ماله.
بعد مجيء زهرة لبنسيون ميرامار تعمل فيه كخادمة أو مضيفة بلغة العصر الحالي، وتلتقي طرقها مع طرق نزلاء البنسيون وكل منهم يراها من منظوره الخاص، فمنهم من يراها ابنة يحنو عليها ومنهم من يراها أداة للمتعة يريد استغلالها ومنهم من يراها صديقة وفية ومنهم من يراها حبيبة لا يرغب في الزواج منها.
-        ماريانا: هي مالكة بنسيون ميرامار يونانية الأصل عاد كل من تعرفه من ذوي أصولها إلى أوطانهم وبقيت وحيدة في البنسيون بعد أن اطمأنت أنه لن يخضع للتأميم، تكره الثورات المصرية التي سلبت منها كل شيء، ثورة 1919 سلبت زوجها الأول وحبيبها الوحيد، وثورة 1952 سلبت مالها الذي جنته من جنود الإمبراطورية البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية ولم يعد لها مورد رزق سوى دخل البنسيون الضئيل الذي تحول من بنسيون السادة إلى بنسيون ينزل به كل من هب ودب أثناء موسم الصيف وملجأ للطلبة خلال موسم الشتاء.
-        طلبة مرزوق: أحد نزلاء بنسيون ميرامار والذي لم يفرد له نجيب محفوظ لساناً في سرد رواية ميرامار، ربما لأنه لم يكن مؤثراً في الأحداث إذ يكفي ما يعرفه القارئ عنه من خلال سرد الرواة الآخرين، فهو أحد الإقطاعيين الكبار في عصر الملكية وكان وزيراً للأوقاف وقد جردته الثورة من أغلب أملاكه وأصبح يعاني نظرات الشماتة والذل في عيون كل من يعرفهم في القاهرة؛ فآثر الهرب إلى الإسكندرية حيث لا يعرفه أحد واختار بنسيون ميرامار لما يجمعه من علاقة غرامية سابقة مع صاحبته مريانا.
 وبخلاف هذه الشخصيات الرئيسية وجدت أيضاً شخصيات ثانوية في رواية ميرامار قدمها نجيب محفوظ لتكون عوامل محركة للأحداث وتطور الشخصيات وتفسيرها، وهي:

-        محمود أبو العباس: بائع الجرائد الذي حاول خطبة زهرة ولكنها رفضته.
-        صفية: عشيقة سرحان البحيري التي تعمل في الجنفواز، والتي تركها بعد أن التقى بزهرة لتتحول منه إلى حسني علام.
-        درية: حبيبة منصور باهي القديمة التي تزوجت فوزي صديقه وأستاذه لتردده وعدم إقدامه على أي خطوة جدية للارتباط بها، وبعد اعتقال فوزي يبدأ في التردد عليها لمواساتها فتتجدد مشاعر الحب مرة أخرى، وينمي ذلك إلى علم زوجها في سجنه فيترك لها حرية القرار في الانفصال عنه، وعندما تخبر منصور باهي بذلك يتراجع عن علاقتهما ويرى فيها خيانة لصديقه ويطالبها بنسيان كل شيء ورفض الانفصال.
-        علية: مدرسة زهرة التي تعلمها القراءة والكتابة والتي يرى فيها سرحان البحيري الزوجة المناسبة التي تصلح له مادياً واجتماعياً فيخون زهرة ويتقدم للزواج منها.
قراءة في رواية ميرامار لأديب نوبل نجيب محفوظ:

   يمكن قراءة رواية ميرامار للروائي الكبير نجيب محفوظ على مستويين، المستوى السطحي الظاهري وهو أنها قصة فتاة مصرية بسيطة تعترضها العقبات الواحدة تلو الأخرى، ولكنها تواجهها بشجاعة مصرة على استكمال دربها وتحدي كل الصعاب لا يثنيها خيانة حبيب أو غدر صديق، ولا تتنازل عن مبادئها وأخلاقها في سبيل ذلك، أما القراءة الأعمق فهي القراءة الرمزية التي عمد إليها نجيب محفوظ في الكثير من رواياته، فزهرة بإمكانها أن تجسد مصر في فترة ما بعد يوليو 1952 حيث تلتف حولها كل القوى تريد أن تحصل منها على ما يمكن من المكاسب.
   ماريانا اليونانية يمكنها أن تجسد قوى الاحتلال التي ترغب في استغلال مصر بأقصى ما يمكنها، وعامر وجدي الذي أحب زهرة كابنة يمكنه أن يكون الشعب الوطني الذي يحب مصر بلا مقابل، وطلبة مرزوق وحسني علام هما تجسيد لطبقة الانتفاعيين على مرحلتين الذي عصروا ثروات مصر وبددوها في ملذاتهم الخاصة ولم ينظروا إليها إلا كوعاء لملذاتهم، أما منصور باهي فقد يكون تجسيداً للشباب الثائر الذي يرغب في إصلاح الأوضاع ولكنه يحبط عندما يصطدم بصخرة الواقع من سجن وتعذيب وتكميم للأفواه فيضطر أن يصمت أو يهادن ويعتصره الإحساس بالخيانة والخذلان.
    وأخيراً سرحان البحيري الذي جسد دور الشاب المنتمي للاتحاد الإشتراكي، فهو يمثل السلطة الحاكمة وقتها والتي خدعت مصر بحبها وأنها تسعى لصالحها بينما هي تعقد اتفاقات خارجية لتوطيد مصالحها وتعمل على سرقة خيراتها، ولكن حتماً ستنكشف وسيكون مصيرها إلى زوال.

مقارنة بين رواية ميرامار لأديب نوبل نجيب محفوظ وفيلم ميرامار المأخوذ عنها:
أفيش فيلم ميرامار
أفيش فيلم ميرامار

   نفس ما جرى لي مع رواية ميرامار عندما قرأتها لأول مرة حدث أيضاً مع فيلم ميرامار عندما شاهدته لأول مرة وقد كنت أيضاً أصغر فقد كنت لا أزال في مرحلة الطفولة لا المراهقة، وبالطبع لم تكن تستهويني تلك النوعية من الأفلام، فعلى الرغم من أنني كنت عاشقة أيضاً لأفلام الأبيض والأسود إلا إنني بطبيعة الحال كنت أحب الأفلام الرومانسية والمرحة أما فيلم ميرامار فكان يبدو لي فيلماً كئيباً من الدرجة الأولى، عندما أعدت قراءة رواية ميرامار رغبت في مشاهدة فيلم ميرامار أيضاً فهي هواية لدي أن أقارن بين الأعمال الأدبية والأعمال الفنية المأخوذة عنها.
   حقيقة الأمر جاء فيلم ميرامار محبطاً جداً في علاقته مع رواية ميرامار، فقد هدم كل المعاني التي سعت لها الرواية، فعلى مستوى الترميز لم يعد بالإمكان إعطاء الشخصيات نفس الرموز السالفة الذكر بعد تسطيحها بتلك الطريقة، وعلى مستوى القصة كقصة فتاة مصرية طموحة أتى مشهد النهاية ليدمر تلك القصة ويرسل رسالة واضحة للجمهور بأن على الفتاة الخادمة أن لا تطمح في شيء أعلى من تلك الحياة وليس من حقها أن تحب سوى بائع الجرائد الذي يكافئها في المستوى الاجتماعي، فالحب لا يقاس بالمشاعر وإنما بالأموال والشهادات والعائلات!

تعليقات

  1. أحبائي
    ابنتنا المبدعة المتألقة
    أنت بحق مبدعة ومجتهدة في البحث عن رؤية نقدية
    لكن الإبداع أهم ألف مرة من النقد لأنه من يجسد المسيرة الحياتية
    وقراءتك لعمل أستاذنا نجيب محفوظ يثبت جديتك في تناول الأعمال الأدبية
    أحبائي
    دعوة محبة
    أدعو سيادتكم إلى حسن التعليق وآدابه...واحترام بعضنا البعض
    ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
    نشر هذه الثقافة بين كافة البشر هي على الأسوياء الأنقياء واجب وفرض
    جمال بركات...رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة

    ردحذف
    الردود
    1. جزاك الله خيراً، وأسعدني مرورك العطر ^_^

      حذف
  2. رؤية نقدية ثاقبة وتحليل رائع للأحداث في الرواية وشخوصها. خاض قلمك ببراعة معبرًا عن ما وراء السطور والرموز التى يشير إليها الكاتب. ينتهج الجميع نفس النهج في تعامله مع مصر فيرغبون في تحقيق أطماعهم ورغباتهم على حساب أي شيء. دام إبداعك الراقي

    ردحذف
    الردود
    1. ولكن مصر باقية رغم أنف الطامعين، أسعدني مرورك الكريم

      حذف

إرسال تعليق

تعليقاتكم تثري موضوعاتنا وتساعدنا على الاستمرار فنحن نهدف إلى اثارة النقاش الجاد المفيد لكافة الأطراف حول الموضوعات المطروحة، ويسرنا أن نعلم ما إذا كانت المقالات تنال استحسانكم أم لا وما جوانب النفع أو القصور فيها، وماذا تأملون في المقالات القادمة؟