أول تجربة لي مع الموت

 

صورة لنا في فصل الحضانة
صورة لنا في فصل الحضانة

 

   بينما اتصفح مذكرات طفولتي في عمر الثالثة عشر، حيث كنت أعيش حينها في دولة اليابان، وكنت في ذلك الوقت قد أنهيت المرحلة الدراسية الإعدادية لتوي وكنا في طور الاستعداد للعودة النهائية إلى مصر، وجدت هذه الخواطر التي تحكي شعوري وأفكاري تجاه تجربة الموت التي لمستها لأول مرة في خبر وفاة أحد زملاء الدراسة في مصر، وقد آثرت أن أنقل ما دونته آنذاك كما كتبته بمشاعر طفلة تفجع لأول مرة في حقيقة الحياة:

 

   "أخبرتني والدتي أن "علي مفيد زهر الدين" أحد زملاء الدراسة عندما كنت في بداية المرحلة الابتدائية في مصر، قد توفي في شهر إبريل الماضي؛ ففجعت وسألتها عمن أخبرها بهذا؛ فقالت أن أحد أصدقاء أبي من أسيوط أتصل به وأخبره هذا الخبر، لم تكن العلاقة بيني وبين علي رحمه الله سوى علاقة زمالة انتهت بانتهاء الصف الثاني الابتدائي وانتقال جميع الأولاد من مدرستنا "دار الأرقم" إلى مدرستي "دار حراء" و"دار الأقصى"، وكان علي ممن انتقلوا إلى مدرسة دار حراء.

  ومنذ أن انتقل من مدرستنا لم أره سوى مرة واحدة منذ عامين عندما عدنا في إجازة إلى مصر، وحضرت فرح أخته إيمان مع والداي، وكنت أعرف أنه صديق ابن عمي في النادي، وبالرغم من علاقتي السطحية هذه به إلا أنني حزنت جداً عندما علمت بخبر وفاته في حادثة سيارة، وأصابني خوف شديد في داخلي لا أعلم سببه، ربما لأنه في مثل عمري ولم يتمتع بحياته، بالتأكيد كان يفكر في المستقبل مثلي، ويحلم بحياة سعيدة وبشريكة حياته وأن ينجب أطفالاً، ولكنه لم يحقق شيئاً من ذلك.

   حتى أسهل وأقرب حلم في الوقت الحالي الذي يتمناه أي طالب وهو على أبواب الامتحانات بأن ينجح ويتفوق لم يستطع تحقيقه، جلست أتذكر أيام الطفولة حينما كنا معاً في نفس الفصل، كان فتى شقياً ومشاغباً، كانت تعجبني شقاوته ومشاغباته أحياناً، كانت روحه مرحة لدرجة أنني أحببته حينها، ولا أنكر أنني تمنيت أن يكون زوجاً لي، لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي كنت جالسة مع صديقتي ياسمين وحدنا في الفصل في وقت الفسحة، طلبت مني ورقة وأعطيتها إياها؛ فكتبت فيها خطاباً لأحد زملاءنا في الفصل حيث كانا يحب كل منهما الآخر ويتواعدا على الزواج.

  (كنا في الصف الثاني الابتدائي وعمرنا لم يتجاوز الثماني سنوات) 

   حينها طرأت على ذهني فكرة، وهي أن أكتب خطاباً أنا أيضاً لعلي رحمه الله، وبالفعل كتبت له في ورقة: "بحبك خالص"، ووقعت باسمي، ثم وضعتها في حقيبته بداخل كتاب اللغة العربية على صفحة الدرس الذي درسناه يومها؛ كي يجدها عندما يراجع الدرس، لا أعلم كيف كانت لدي الجرأة حينها لأفعل شيئاً مثل هذا؟! (ولا أعلم أين ذهبت هذه الجرأة الآن؟!)، وأتذكر أنه في اليوم التالي في المدرسة قال لي: "إيه قلة الأدب اللي انت كتبتيها لي إمبارح دي؟".

   (كنا في مدرسة من سلسلة مدارس إسلامية تعلمنا أن الحب وكلام الحب حرام وكان والده المدير العام لسلسلة المدارس)

   عندما رأيته منذ عامين في فرح أخته إيمان كان شكله قد تغير قليلاً، ولكني عرفته مباشرة، كانت لدي الرغبة لأتكلم معه وأتذكر معه أيام الطفولة، لكن آلاء ابنة عمي التي تكبرني بثلاث سنوات نصحتني بعدم فعل ذلك حتى لا يظن أنني فتاة غير مؤدبة، ونظراً لتجربتي السابقة معه فقد خجلت من الذهاب إليه ولم أجد الشجاعة الكافية لأتكلم معه، تنتابني الآن الرغبة في البكاء وأنا أتذكر تلك الأيام الجميلة، وبالرغم من أنه لم يطرأ على بالي طوال العامين الماضيين إلا إنني حزنت عليه جداً.

   اكتشفت أنه كان عزيز علي جداً، ليس إلى درجة الحب، فهذا كان مجرد كلام وحركات أطفال، ولكني اكتشفت أنني كنت أعزه بمثابة الأخ فقط، أول مرة شخص أعرفه يموت في مثل هذا السن، عندما ماتت جدتي فوزية رحمها الله لم أشعر بمثل ما أشعر به الآن؛ فهي على كل حال كانت كبيرة في السن ومريضة بالسرطان؛ فكان من المتوقع أن تموت، وفي النهاية هي ماتت بعد أن حققت كثيراً مما تمنته؛ فقد تزوجت زوجاً يحبها وتحبه، وانجبت من الأبناء ثمانية، ورأتهم أمامها منهم الضابط والمهندس والمحاسب والمدرس، ورأت من الأحفاد اثنين وعشرين حفيد وحفيدة، لم تفقد منهم سوى حفيدة واحدة يوم ولادتها، أي أنها لم تتعلق بها حتى تشعر بالحزن عليها.

   أما علي رحمه الله فهو مثلي الآن، لم يحقق أحلامه، لم يتزوج، لم ينجب أطفالاً، لم يرى أحفاداً، ولأول مرة أشعر أنني أخاف من الموت أو لا أريده الآن على الأقل، أريد أن أتفوق وأنجح في دراستي، وأعمل وأحب وأتزوج من أحبه، وأنجب أطفالاً كثيرين (اكتفي باثنين الآن)، وأراهم في أفراحهم مسرورين كل مع من أختار وأحب، وأرى أحفادي، وأعيش أسعد حياة في الدنيا، وعندما أموت أريد أن أكون من أهل اليمين، ولا أُعذب في القبر، ويكون قبري روضة من رياض الجنة، وعندما تقوم الساعة أكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأعبر على الصراط جرياً، وأدخل الجنة، وليست أي جنة بل الفردوس الأعلى.

    يا لها من أحلام، ولكن هل من الممكن أن تتحقق؟ هذا هو السؤال المحير الذي لن تنكشف إجابته إلا تدريجياً في المستقبل البعيد، ولكن هل من الممكن أن يعطيني الله السعادة في الدنيا والآخرة؟ هذه هي أمنيتي الحقيقية والتي أرجوها من الله ليل نهار."

 

   إلى هذا الحد انتهى ما دونته في مذكراتي يومها عن تجربة الموت التي شعرت بها لأول مرة في حياتي، والحقيقة أن هذه التجربة لم تفارقني أبداً من حينها؛ فكثيراً ما أتذكر علي مفيد رحمه الله وموته المبكر وتؤلمني الذكرى، حتى إن تجربة الموت تلك أوحت لي بإحدى قصصي القصيرة أشجار التوت، والتي على الرغم من اختلاف تفاصيلها مع الواقع إلا أنها كانت من وحي مشاعري تجاه تجربة الموت التي مررت بها في وفاة علي رحمه الله، لروحه السلام ولأهله الصبر والسلوان.

تعليقات

  1. حبيت أوي المقالة القصصية، أظنها من المقالات اللى مش هنساها حبيت العفوية فيها و مشاعرها الرقيقة، بعتها لكل أصحابي. 🍓💙💙💙

    ردحذف
    الردود
    1. الله يخليكي، ده من ذوقك، وإن كنت أتمنى لو كان المقال عن ذكرى مفرحة أو أقل قساوة :[

      حذف
  2. أنتِ البنت اللى في الصف الوسطاني على اليمين، طيب و على أنهي ولد في كل دول؟
    ربنا يرحمه

    ردحذف
    الردود
    1. أنا البنت المنكوشة في الصف الوسطاني بالفعل، تالت واحدة في الصف من اليمين بين ولدين، وبالصدفة القدرية علي الله يرحمه واقف ورايا

      حذف

إرسال تعليق

تعليقاتكم تثري موضوعاتنا وتساعدنا على الاستمرار فنحن نهدف إلى اثارة النقاش الجاد المفيد لكافة الأطراف حول الموضوعات المطروحة، ويسرنا أن نعلم ما إذا كانت المقالات تنال استحسانكم أم لا وما جوانب النفع أو القصور فيها، وماذا تأملون في المقالات القادمة؟