قراءة لقصتي دموع الأمل في نادي أدب أسيوط

مراجعة رواية رمزة ابنة الحريم للكاتبة قوت القلوب الدمرداشية

غلاف رواية رمزة ابنة الحريم
غلاف رواية رمزة ابنة الحريم


ذكرياتي مع رواية رمزة ابنة الحريم:

      قد تعد تلك هي أول رواية حقيقية بالمعنى الأدبي أقرأها في حياتي، فقد قرأتها وأنا بعد طالبة في الصف الأول الثانوي، وكانت أغلب قراءاتي السابقة تنحصر ما بين قصص ومجلات الأطفال التي يشتريها لي والدي والكتب الدينية التي تزخر بها مكتبة والداي اللذان لم يكن لديهما أي كتاب في مجالات الأدب والرواية، وفور أن التحقت بالمدرسة الثانوية كانت مكتبة المدرسة هي ملجأي الدائم لأقضي بها كل أوقات فراغي سواء كانت الفسحة اليومية أو الحصص الملغاة.
     أذكر أنني قرأت في هذه الفترة العديد من الروايات والأعمال الأدبية التي كانت عالماً مجهولاً بالنسبة لي من قبل، ومما أذكر من قرائتي في هذا الوقت: الباب المفتوح للطيفة الزيات ومذكرات الكاتبة فتحية العسال ومسافر في دمي والإمضاء سلوى لعائشة أبو النور وبعض المجموعات القصصية والأدب المترجم التي لا أذكر عناوينها الآن، ولا أعلم هل هي مصادفة أن أغلب قراءاتي في ذلك الوقت كانت لأقلام نسائية وهل ذلك كان متعمداً من وزارة التربية والتعليم أن يضعوا في مكتبة مدرسة للفتيات كل هذا الكم من الإبداع والأدب النسائي أم أن ذلك كان عفوياً؟!
    ولكن مما لا شك فيه أن هذه الكتب والروايات قد ساهمت بشكل كبير في تكوين رؤيتي النسائية والتي هي منذ نعومة أظافري تكمن تحت جلدي في انتظار من ينبشها لتخرج للوجود على شكل نقاط وآراء محددة بدلاً من غوغائية الحديث الذي لا برهان علية ولا حجة مقنعة لإثباته، ولفرط ذهولي بهذا العالم الجديد الذي قد اقتحمت أبوابه للتو فقد كنت أستعير الكتب من مكتبة المدرسة لأصور نسخ ضوئية منها يمكنني الإحتفاظ بها للأبد في مكتبتي الخاصة!
    لم أعير آذاناً للأصوات المحذرة من ارتفاع سعر التصوير عن سعر الكتاب الأصلي وأن شراءه أوفر، خاصة مع عدم انتشار مكتبات بيع الكتب في محافظتي أسيوط في ذلك الوقت وعدم سهولة الحصول على أي كتاب أريده، ولكنني بعد فترة توقفت مرغمة عن هذا الأمر نظراً لعدم كفاية مصروفي الخاص للإنفاق على هذا الهوس الذي طال أمره، ولكن كان من نتاج تلك الفترة هو حصولي على نسخة مصورة من رواية "رمزة ابنة الحريم" للكاتبة "قوت القلوب الدمرداشية" لازلت أحتفظ بها في مكتبتي للآن!

من هي قوت القلوب الدمرداشية؟
صورة شخصية لقوت القلوب الدمرداشية
قوت القلوب الدمرداشية


    عند قراءتي الأولى لرواية "رمزة ابنة الحريم" لم أكن اعرف من هي قوت القلوب الدمرداشية كاتبة الرواية؟ وظننت أن الأمر تقصيراً مني لأنني لم أكن على اطلاع كاف بالكُتاب والكاتبات القدامى، ولكن بمرور الزمن اكتشفت أن الأمر ليس مقتصراً علي فحسب، فإلى الآن تعد قوت القلوب الدمرداشية من الكاتبات المصريات المجهولات بالنسبة لعدد كبير من القراء العرب والمصريين على حد سواء، وما ساهم في عدم معرفة جمهور القراء العرب بها هو أنها كتبت جل انتاجها باللغة الفرنسية لا العربية.
    وحتى رواية رمزة ابنة الحريم التي بين أيدينا هي ترجمة للرواية من اللغة الألمانية والتي ترجمت من الأصل الفرنسي، وعلى الرغم من عدم ذيوع صيت قوت القلوب الدمرداشية في الوقت الحالي بين جموع القراء إلا إنها كانت ملء السمع والبصر في زمانها بين أوساط الأدباء والمثقفين، فهي سليلة احدى العائلات العريقة التي أتت لمصر مع جيوش محمد علي من أصل قوقازي، والدها هو مؤسس الطريقة الدمرداشية الصوفية التي سميت باسمه، وكان ذا ثراء واسع ساهم في تنشئة ابنته حياة مرفهة تعلمت من خلالها كل أنواع الفنون وأتقنت عدة لغات.
    قوت القلوب الدمرداشية هي من أنشأت مستشفى الدمرداش التي لا تزال قائمة حتى الآن لعلاج الفقراء وغير القادرين، كما إنها ساهمت بالعديد من الإنشاءات في جامعة عين شمس، وكان لها صالون ثقافي باسمها يتردد عليه كبار الكتاب والأدباء والمثقفين من بينهم أحمد لطفي السيد وقاسم أمين وغيرهم الكثير، كما أنشأت جائزة أدبية باسمها وقد حصل عليها أديب نوبل "نجيب محفوظ" في بداياته، وقد بدأت الكتابة بعد أن جاوزت الأربعين من عمرها، وأول انتاجها كان كتاباً فكرياً بعنوان "مصادقة الفكر" باللغة الفرنسية أيضاً ونشرته لها دار المعارف المصرية.
     بعد حركة الجيش في 1952 ومع صدور قانون التأميم تم تأميم ممتلكات قوت القلوب الدمرداشية في مصر وتم هدم قصرها الخاص؛ فتركت مصر وهاجرت إلى أوروبا ونشرت أغلب أعمالها الأدبية التي تنوعت بين الرواية والقصة القصيرة مع دار غاليمار الفرنسية، ولم يقرأ لها الجمهور العربي سوى ملخصاً لروايتها زنوبة تم نشره في مجلة الهلال في أربعينيات القرن الماضي، وقد عملت قوت القلوب الدمرداشية على الدفاع عن قضية المرأة المصرية وحريتها في اتخاذ قراراتها وعيش حياتها الخاصة من خلال أعمالها الأدبية.

مراجعة رواية رمزة ابنة الحريم:

    تعتبر رواية رمزة ابنة الحريم رواية جريئة بالمقارنة لزمانها ووقت صدورها، فقد تعرضت لقضايا الحريم وأسرارهم وما يحل بهم وراء الأبواب المغلقة، وهذا أمر لم يكن يتم التطرق له في تلك الآونة خاصة من كاتبة أنثى حيث لم يكن هناك الكثير من النساء الكاتبات حيث كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة، تمت كتابة الرواية وصدورها في منتصف القرن الماضي تقريباً ولكن تدور أحداثها في أواخر القرن التاسع عشر قبل صدور قانون تحريم تجارة الرقيق في مصر.
    تُحكى الرواية على لسان بطلتها "رمزة" التي تسترجع ذكرياتها مع والدتها الجارية التي اختطفت في طفولتها وبيعت من سيد لسيد، في البداية اشترتها امرأة عاملتها كابنتها واسمتها "اندشا" وعلمتها مختلف الفنون والآداب واللغات حتى وصلت للرابعة عشر من عمرها فماتت سيدتها وانتقلت ملكيتها لأخيها الذي أوصته أن يخيرها في مصيرها لعلمها بأنها لا ترتاح له، فاختارت أن تباع في سوق الرقيق، وعندما كانت تتعجب ابنتها رمزة عندما تقص عليها ذلك من اختيارها للرق بديلاً عن الحرية بعد أن امتلكت حق تقرير مصيرها، تجيبها بتساؤلها عن ماذا كانت ستفعل بالحرية إذ لم يكن ذلك خياراً آمناً فهي لا تعي شيء عن العالم الخارجي ووجودها كجارية في بيت سيد ثري كان آمن الحلول لها!
   وبيعت بالفعل لتاجر رقيق مصري استقدمها معه إلى مصر مع جارية أخرى أضحت بمثابة الأخت لها، بيعا في أول الأمر لوزير المالية في عهد الخديوي إسماعيل ولكن ما لبث أن انقلب عليه الخديوي وصادر أملاكه ونفاه وقيل أنه قتله على السفينة التي كانت تحمله إلى منفاه؛ فعادت الجاريتان مرة آخرى إلى تاجرهما حتى باعهما مرة ثانية إلى فريد بك أحد كبار المحامين في المحروسة والذي كان مقرباً للخديوي وأسرته، حيث كانت أمه وزوجته يبحثان له عن جارية ينجب منها تجنباً لزواجه من آخرى قد تنغص عليهما عيشهما السعيد.
    في ذلك الوقت كان الخديوي إسماعيل قد أصدر قانوناً يحرم تجارة الرقيق؛ فتمت الصفقة سراً وباعهما التاجر الجاريتان بسعر واحدة مما ضمن لهما عدم التفرق، وبعد فترة أنجبت "إندشا" "رمزة"، والتي كانت نفسها تهفو دائماً للتمرد، وكلما قصت أمها عليها حوادث حياتها التي كانت تعدها قمة المتعة كان يزيد حنقها عليها وعلى تلك الحياة والمجتمع بأسره، ومنذ نعومة أظافرها كانت تطلع دائماً إلى العلم والمعرفة، وكان أبوها متفتحاً إلى حد ما بالنسبة لعصره فسمح لها بالخروج والذهاب إلى المدرسة وتلقي العلم.
    عاهدت رمزة نفسها أن لا تحيا حياة الحريم تلك التي تمقتها أبداً، ولن تسمح لأحد بإجبارها عليها، ولكن مع أول بادرة للتلميح بالزواج والحياة الجديدة ألقت كل أسلحتها جانباً ولم تعترض وانخرطت معهم في سعادة بزواج من شخص لا تعرفه ولم تره في حياتها أبداً من قبل، حتى خطفه الموت فجأة فإذا بها تتذكر وعودها لنفسها وتعجب من أمرها أن كيف نست كل ذلك واندمجت مع الآخرين في عملية بيعها دون أن تنبس ببنت شفة!
    مرت الأيام ووقعت في حب ماهر أخو صديقتها المقربة، عاشوا فترة قصة حب سرية، ثم أرسل ماهر وسيطاً لأبيها يطلب تزويجها له؛ فرفض وأخبرهم أنها مخطوبة، وعندما تسائلت عن هذا الخطيب المجهول أخبروها أن عائلة خطيبها المتوفي لم تسترد هداياها بعد مما يجعلها لا تزال مرتبطة بهم وقد قرروا تزويجها من أخ خطيبها المتوفي بدلاً منه، وكانت هذه هي الطامة الكبرى بالنسبة لها؛ فواجهت أبيها بحقيقة حبها لماهر وعدم رغبتها في الزواج من آخر لا تعرفه.
    ما كان من أبيها إلا أنه رفض رفضاً قاطعاً زواجها من ماهر ذاك الذي يعتبره غير جديراً بها كونه ابن تاجر عادي بينما هي سليلة أسرة باشوات وبهوات، واصراره على زواجها من أخ خطيبها المتوفي، فما كان منها هي أيضاً إلا أن حملت ما قل وزنه وغلا ثمنه وهربت من المنزل إلى حيث يقيم ماهر تخبره برغبتها في الزواج منه في الحال، فما كان منه هو أيضاً إلا أن انصاع لرغبتها وتزوجها، ولكن فور أن عاد بها إلى منزله واجها ثورة عارمة من والده الذي أعلن لهما بطلان هذا الزواج وعدم السماح لهما بالإقامة تحت سقف واحد.
    لم يعترض ماهر على أبيه بكلمة واحدة ولم يحاول الدفاع عن موقفهما بأي صورة، وأخذ والده رمزة إلى أحد أقاربها لتمكث عنده حتى يأخذها أبوها من هناك، ولكنها رفضت العودة بدعوى أنها متزوجة؛ فرفع والدها دعوى ببطلان عقد الزواج لعدم التكافؤ، وأوكلت هي محامياً للترافع عنها، وخلال تلك الفترة لم يقم ماهر بأي دور فعلي وظل على تذبذبه ولم يقم بأي خطوة سوى أنه نفذ زواجها فعلياً ولم يظل زواجاً صورياً على الورق، حتى عايرها به والده وأخبرها أن ما هي إلا ساقطة أسلمت نفسها لابنه بعد صدور قرار المحكمة ببطلان الزواج.
    وحتى بعد صدور قرار المحكمة ببطلان الزواج وعودة رمزة إلى عهدة والدها، لم يحرك ماهر ساكناً واستسلم لأمر تحويله إلى القصير، بينما أبت رمزة التخلي عن تمسكها به؛ فهربت له للمرة الثانية وقطعت الرحلة وحدها من القاهرة حتى قنا لحاقاً به، وكعادته في الاستسلام استسلم لوجودها، وعاشا معاً كزوجين حتى أتاهما خبر وفاة والدها بجلطة متأثراً بخبر هروبها الثاني في برقية أرسلتها له أخته، وهنا أفصح عن مكنونات نفسه، فهو ما تزوجها إلا لوضعها له أمام الأمر الواقع، وما استمر في هذا الزواج إلا نتيجة لإصرارها.
   صرح لها أنه كان مستمراً في علاقتهما على أمل أن يرض أبوها يوماً ما عن تلك العلاقة ولكن إذ أنه مات غاضباً عليها غير راضياً عن زواجهما وقد حكمت المحكمة ببطلانه فهو زواج باطل لا يجوز الاستمرار فيه، وانتهت علاقتهما عند هذا الحد لتعود وحدها إلى القاهرة تقسم أن تنفق كافة ميراثها في حربها ضد طغيان الرجال واستعبادهم للنساء، والكاتبة هنا إذ تؤطر لروايتها في اطار الدفاع عن حقوق المرأة إلا إنها توجز هذه الحقوق في حق اختيار الزوج فقط لا غير.
   فرمزة هنا لم تسعى إلا لرجل، فلم يكن لها من هدف في تحقيق ذاتها أو تكوين هوية خاصة بها، بل هي حرية اختيار سيد يملكها، فقد صرحت في أكثر من موضع أن لم يكن لها من حلم سوى أن تكون زوجة مطيعة مثالية لماهر، لا أرى فرقاً فيما فعلته عن ما فعلته أمها من قبل، فأمها اختارت أن تكون جارية لأي أحد باستثناء أخو سيدتها المتوفية وهي اختارت أن تكون جارية لماهر فقط، الاثنتان اختاروا العبودية غير أن هذه حددتها في سيد واحد والأخرى لم تعبأ لمن يكون سيدها!
   وإذا ما خُيرت بين الشخصيتين فسأختار إندشا على الأقل كانت صريحة مع نفسها وعرفت ماذا تريد من الحياة، بينما رمزة ما سعت إلا لتمرد أجوف، لا اعتراض عندي من كونها أخطأت اختيار الرجل المناسب ولكن إذا كانت حقاً تسعى لفكرة عميقة كحرية المرأة وعندها من النضج ما يكفي فكان من الضروري أن تكتشف تراخيه واستسلامه باكراً وتحول دفة نضالها من كونه متمثلاً في أن تكون زوجته وفقط لأن يكون حرية اختيار مصيرها الخاص وأن تعيش حياتها وفقاً لها لا وفقاً لرغبات المجتمع وأن يكون لها هوية خاصة لا هوية مرتبطة برجل ما!
   ولكن قد يغفر للرواية وللكاتبة كونها كُتبت في عصر مبكر جداً قد تكون أقصى طموح المرأة فيه أن تتزوج وفقاً لرغبتها، وحقيقة الأمر أن بعد ما يقارب قرن من الزمان لازالت تفاصيل الرواية تحدث في العديد من البيوت المصرية وتواجه الفتيات العاشقات نفس مصير رمزة سواء بإكراههن على الزواج من آخر لا يحبونه أو نبذهن في المجتمع وربما أيضاً ممن أحبوهم إذا ما تجرأوا على الهرب للزواج وفقاً لإرادتهن واختيارهن!

تعليقات